لم يكن عدم الكتابة عن الدكتورة تربه منت عمار تجاهلا ولا إنكارًا، بل لأن بعض الأدوار تعلو على الضجيج، وتُمارس بسمو يترفع عن الأضواء. لم نكتب عنها لأننا كنا ننتظر لحظة تليق بحجم عطائها، وتعبّر بصدق عن وزنها في ميزان التغيير الهادئ الذي تُجيده القامات الكبيرة مثلها.
هي ابنة باركيول، التي لم تستعرض حضورها، بل جعلت من الفعل صدى، ومن المبادرة عنوانا لوجودها. دعمها لطلاب في أصعب مراحل التحصيل العلمي، كان عملا وطنيا بامتياز، خاليا من الطمع السياسي، نابضا بالإيمان العميق بأن للعلم حقا على أبناء الهامش.
سنكتب عنها الآن لأنها أثبتت أن امرأة واحدة، مسلحة بالوعي والصدق، قادرة على أن تحدث فرقا حقيقيًا، بعيدًا عن التصفيق، وقريبًا من وجدان الناس.
في ضفة من ضفاف العطاء الصامت، تنمو الدكتورة تربة عمار كما تنمو شجرة وارفة، لا يراها المارّة دائمًا، لكنها تظل تُظلل أحلامًا كثيرة كانت على وشك الذبول. ليست مجرد اسم أكاديمي، بل روح مؤمنة بأن التعليم هو طريق التحرر الحقيقي، وأن أبناء الطبقات المهمشة لا ينقصهم الذكاء بل تنقصهم الفرص.
منذ سنة 2021، كتبت الدكتورة تربة قصة مختلفة، أبطالها 13 طالبًا، من تخصصات علمية وقانونية واجتماعية، بين ماستر ودكتوراه وليصانص، ساندتهم في التسجيل، سعت لمنحهم، ورافقتهم حتى اجتازوا بوابات الجامعات المغربية، فكانوا سفراء للأمل، قبل أن يكونوا طلابًا.
اللافت أن ما قدّمت لم يكن ضمن منصب رسمي، ولا مشروع معلن، بل كان نابعا من إيمانها الراسخ بأن أبناء الوطن، من الهامش، يستحقون أن يكونوا في صلب القلب الوطني، لا في أطرافه المنسية.
إن ما يميز هذه التجربة، أنها تأسست على التكافؤ والعدالة، وعلى فهم عميق بأن بناء مجتمع متماسك يبدأ من تعليم متاح، وعادل، ومُلهم. فأن تمنح طالبًا ماستر في الذكاء الاصطناعي أو الاقتصاد، من بلدة ريفية نائية، هو أن تمنحه وطنًا بأكمله.
الدكتورة تربة عمار لا تطلب التمجيد، فهي تعرف أن الأعمال تُنقش في ضمائر الناس لا على الجدران، وتعلم أن أعظم الألقاب هي التي يمنحها الميدان… وقد منحها الميدان احترامًا لا يُشترى.
وها هي اليوم، لا تزال تكتب فصلاً جديدًا من التحول الصامت، حيث يُصنع الغد في قلوبٍ آمنت بأن للعلم وسيلة، وأن وراء العطاء الحقيقي دومًا امرأة تعرف ما معنى أن يكون الإنسان طوق نجاة للآخرين.
إن من العار على مؤسسات التعليم، وعيب على صناع القرار، أن تُقصى قامة علمية وأكاديمية بقيمة الدكتورة تربة عمار، المرأة التي جمعت بين المعرفة والعمل، وبين العطاء الهادئ والتأثير العميق. التهميش في حقها ليس مجرد تجاهل، بل ظلم لأجيال تستحق أن تتربى على يديها، وخسارة للوطن الذي يبخل على أبنائه البررة بفرص تليق بمقامهم. آن الأوان أن يُرفع هذا الظلم، وأن تُعاد الأمور إلى نصابها، فالوقت لا يرحم المتخاذلين عن إنصاف أهل الفضل.
#خطاب_الاشراك #صرخة_في_بحر_الحرمان #تبصير_أخلاقي
