في الثالث والعشرين من أكتوبر 2025، شهدت مدينة روصو حدثًا يتجاوز الإطار البروتوكولي إلى جوهر الفعل التنموي؛ حيث أشرف فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على انطلاق الحملة الوطنية لزراعة الخضروات ووضع حجر الأساس لمشروع رافد قناة سوكام.
قد تبدو هذه مجرد محطة موسمية في تقويم الدولة، لكنها في الواقع تعكس تحولًا بنيويًا في فلسفة التنمية الوطنية؛ فموريتانيا اليوم تضع الزراعة في صدارة أولوياتها، ليس كشعار، بل كمصدر سيادةٍ غذائيةٍ واستقلالٍ اقتصاديٍّ متدرّج.
الزراعة شريان الشعوب
ما من أمة نهضت إلا وقد أمّنت غذاءها أولًا.
وهكذا تأتي هذه الزيارة لتذكّرنا بأن الزراعة ليست قطاعًا اقتصاديًا فحسب، بل شريان حياة الأمم، ومؤشر قوتها الحقيقية.
فخامة الرئيس اختار أن يُطلِق موسم الزراعة من الترارزة، وهذه رمزية لا تخفى على ذي بصيرة: فالترارزة هي قلب موريتانيا الزراعي، ومخزونها المائي، وأرضها الخصبة الممتدة على ضفاف نهر السنغال، حيث تتلاقى التربة والماء والإنسان في معادلة التنمية الحقيقية.
الترارزة من أرض الزرع إلى قطب التنمية
ليست الترارزة مجرد ولاية زراعية، بل قطب تنموي واعد يجمع بين عناصر متعددة القوة:
• موقع جغرافي استراتيجي يربط البلاد بجوارها الإفريقي،
• موارد مائية غنية تسند الزراعة المروية،
• أرضٌ قابلة للاستصلاح،
• وتزاوج طبيعي بين الزراعة والطاقة، خصوصًا مع التحولات المرتقبة في مجال الغاز الطبيعي.
فبينما تستعد موريتانيا لتكون لاعبًا إقليميًا في سوق الطاقة، تتجه الدولة لربط هذا المورد الاستراتيجي بتطوير الزراعة عبر الطاقة النظيفة والرخيصة لتشغيل المضخات ومعامل التبريد والتصنيع الغذائي، ما يعزز مفهوم “الاقتصاد المتكامل” بدل “القطاعات المنعزلة”.
قناة سوكام مشروع بنية تحتية برؤية استراتيجية
وضع حجر الأساس لمشروع رافد قناة سوكام لم يكن خطوة رمزية فحسب، بل إعلانًا عن دخول مرحلة جديدة من الاستثمار في البنية التحتية الزراعية.
هذا المشروع سيسهم في استصلاح آلاف الهكتارات، وزيادة الإنتاج المحلي من الخضروات، وتقليص الواردات الغذائية، وخلق فرص عمل دائمة في مناطق كانت تعتمد على الزراعة الموسمية المحدودة.
إنها خطوة نحو زراعة منظمة ومربحة، تُبنى على أسس علمية ومؤسسية، وتستند إلى رؤية واضحة للأمن الغذائي.
البعد الرمزي والسياسي للزيارة
أن يشرف رئيس الجمهورية بنفسه على إطلاق الموسم الزراعي، فذلك رسالة سياسية قوية:
أن الدولة بكل مستوياتها ملتزمة بتحويل شعار الاكتفاء الذاتي إلى واقعٍ ملموس.
هذه الزيارة، بما حملته من حضور رسمي وميداني، تعزز الثقة لدى المزارعين والمستثمرين، وتؤكد أن الزراعة باتت قطاعًا ذا أولوية وطنية، لا هامشًا موسميًا كما كان الحال لعقود.
من الزراعة إلى التنمية المتكاملة
حين ننظر بعمق إلى المشهد، ندرك أن زيارة الترارزة تمثل رؤية متكاملة للتنمية:
ربط الزراعة بالطاقة، والريف بالمدينة، والإنتاج المحلي بالتصدير، مع إدماج المجتمع في عملية التنمية من أسفل إلى أعلى.
فالمطلوب ليس فقط زيادة المحاصيل، بل خلق منظومة إنتاج متكاملة تشمل التخزين، والتبريد، والتغليف، والتسويق، بما يرفع القيمة المضافة ويخلق فرص عمل دائمة للشباب والنساء.
في دلالة اللحظة
زيارة فخامة الرئيس إلى روصو هي تأكيد للثقة بالإنسان الموريتاني، وبقدرة الأرض حين تُروى بعلمٍ وإدارةٍ رشيدة.
الترارزة، بهذا الزخم الجديد، تتحول من سلة خضروات إلى سلة استراتيجيات وطنية، حيث تُزرع اليوم مشاريع الأمن الغذائي، وتُحصد غدًا ثمار الاستقلال الاقتصادي.
خاتمة
الزراعة ليست مجرد موسم، بل فلسفة بناء أمة.
والترارزة، بتاريخها وخصوبتها وموقعها، قادرة أن تكون نقطة التوازن بين الأمن الغذائي والطاقة والتنمية المستدامة.
زيارة فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لهذه الولاية لم تكن جولة ميدانية، بل رسالة دولة بكامل مؤسساتها:
أن التنمية تبدأ من الأرض، وأن نهضة موريتانيا الجديدة تُكتب اليوم ببذور الزراعة وعرق الفلاحين.
محمدن اياهي
