في قرية “اجريف”، غير بعيد من مدينة أطار، وتحت ظلال جبال آدرار الشامخة، ولد محمد ولد محمود، المعروف في الأوساط الشعبية بلقبه الأشهر “ابرور”، سنة 1957. هناك، في حضن الطبيعة البكر، نشأ الطفل بين أقرانه، يلهو تارة بكرة القدم، وتارة أخرى يسرح مع النسيم المعبق برائحة التاريخ والتقاليد. لكن قلب “ابرور” لم يكن كغيره من الأطفال؛ إذ كانت أنفاسه الأولى مشدودة نحو عالم آخر، أفق أوسع، هو عالم المديح النبوي.
منذ نعومة أظافره، كانت حنجرته تشي بموهبة فريدة، وكان صوته العذب ينساب كما ينساب جدول الماء بين وديان آدرار، رخيمًا، مؤثرًا، يحمل في طياته مزيجًا من الشجن والمحبة، حتى بدا وكأن قلبه سُكب فيه حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
دخل “ابرور” عالم المديح من بابه الواسع في وقت مبكر من حياته. وقد بدأت رحلته الفعلية من مهرجان المديح الشهير الذي نظم بمدينة أطار سنة 1981، حيث لفت الأنظار إلى صوته وأدائه المختلف. وفي عام 1983 شارك في مهرجان التراث بمدينة تجكجة، وهناك كانت لحظة تتويج أخرى، إذ نال الجائزة الأولى متفوقًا على صفوة المداحين. تكررت التجربة سنة 1990 في مهرجان “الطواز”، ليحصد من جديد الجائزة الأولى، ويثبت مكانته كأحد رموز المديح في البلاد.
لم يكن “ابرور” مجرد مداح؛ بل كان مدرسة فنية قائمة بذاتها. تميز بقدرته النادرة على التنقل السلس بين مقامات المديح الأساسية مثل: “كر”، و”فاقو”، و”لكحال”، و”لبتيت”، بأسلوب يجعل المستمع يعيش التجربة الإيمانية والروحية كما لو كانت لحظة من إشراق النبوة.
لقد كان مديح أبرور أكثر من فن، كان رسالة وحياة. فلم يمارس أي مهنة أخرى، ولم يربط مستقبله بأي شيء سوى مدح خير البرية. وهكذا، عاش للمديح، وبه، ومنه.
كان له حضور بارز في وسائل الإعلام الموريتانية، حيث سجّل للتلفزة الوطنية ثلاثة أشرطة: الأول سنة 2002، الثاني سنة 2004، والثالث سنة 2006. وقد أحب الجمهور صوته وأداءه المخلص، فارتبط اسمه في أذهانهم بصوت الروح وهي تترنم بحب المصطفى صلى اللهعليهوسلم.
وفي سنة 2010، شارك في أول مسابقة كبرى للمداحين بموريتانيا، عُرفت بمسابقة “المداح”، وحقق فيها المرتبة الأولى عن جدارة، ليختم مسيرته بإكليل من التميز والوفاء للفن الذي نذر له عمره.
في 23 يناير 2011، ودّع “ابرور” الدنيا، وودعته أطار بالحزن والأسى. غاب الجسد، لكن الصوت بقي، والنغم ظل يهمس في آذان العاشقين لمدح رسول الله، والقلوب ما زالت تردد ترانيمه التي حفرت نفسها في وجدان الناس.
لقد رحل رجل لم يكن مجرد فنان، بل كان مَعلَما من معالم الثقافة الشعبية والدينية في موريتانيا. ترك وراءه تراثًا نابضًا بالإيمان والجمال، ومسيرة ملهمة سيقف عندها طويلاً كل من أحبّ المديح النبوي وذاق حلاوته.
رحم الله أبرور، وأسكنه فسيح جناته، وجعل ما قدّمه في ميزان حسناته.
#تبصير_أخلاقي
بقلم الخبير والناشط السياسي: ازيدبيه ولد احديد
