خلال ندوتهم الحوارية المنعقدة في 16 أغسطس 2025، تحت عنوان “الخطاب الشرائحي…”، بدا أن القائمين على المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية قد شرعوا في إطلاق حملة منظمة ضد ما يصفونه تارة بخطاب الكراهية وتارة أخرى بالخطاب الشرئحي.
والمفارقة أن لا المنظمين ولا أغلب المتدخلين كلّفوا أنفسهم عناء تحديد هذه المفاهيم بوضوح، أو توضيح خطرها الحقيقي على اللحمة الاجتماعية. بل آثروا الانكفاء إلى عموميات خطاباتهم المعتادة: الخطاب المتكرر عن آثار الاستعمار المزعومة، والتهويل من خطر “فلام”، واتهام قادة الحراطين بالانتهازية، دون أن يغفلوا مواضيعهم المفضلة — الفساد ونظام المحاصصة. وهي انحرافات ظاهرها التحليل، لكن باطنها لا يخفي محاولة لصرف الأنظار، وخطة شبه مكشوفة لتقويض الشرعية.
هذا التصعيد في النبرة، والذي بدا أكثر حدة من المعتاد، يبدو في حقيقته ناتجًا عن انزعاج متزايد من خطاب أصبح اليوم راسخًا في الفضاء العام: إنه صوت الحراطين. أصوات تطالب بقطيعة جذرية مع نير العبودية الجديدة، الذي يتجلى في محاولات إدماجهم القسري داخل المنظومة “البيظانية”، وتطالب بحقهم في تمثيل كامل ومتوازن، يتناسب مع ثقلهم الديمغرافي والمسار الطويل الذي قطعوه في درب التحرر والانعتاق.
هذا التحول اللافت في الخطاب السياسي الذي تتبناه النخبة الحراطينية يعكس تطلعًا عميقًا نحو تحرر اجتماعي وسياسي حقيقي. وهو تطلع يزعج بوضوح تصوّرًا معينًا للدولة الموريتانية، قائمًا على شرعية مزعومة لتفوق عرقي مموّه بعناية تحت شعارات الجمهورية والمواطنة.
من خلال تبنّيهم لخطاب يبدو في ظاهره مواطنيًا، مصاغ بعناية ومشبّع بالديماغوجية والتضليل، يسعى هؤلاء المهندسون الخطابيون إلى التهرب المتعمد من الحقائق الميدانية. فهم، عبر بلاغة أخلاقوية متقنة، يحاولون شيطنة خطاب تحرري يتّسم بقدر متزايد من الجرأة والوضوح والعمق، خطاب يكشف بجلاء البنى الهيكلية لنظام عبودية جديدة ذات طابع بنيوي.
بدلًا من صياغة استراتيجية متبصّرة تواكب بهدوء تحوّلًا اجتماعيًا معقدًا بدون شك، لكنه حتمي، يصرّ حراس النظام الاجتماعي القائم على عرقلة المسار الطبيعي – والذي بات اليوم غير قابل للرجوع – لتحولنا الجماعي. وهُم، في هذا الإصرار، لا يفعلون سوى التعلّق بوهم الحفاظ على نظام تجاوزته حركة التاريخ، وفقد شرعيته أمام وعي جديد يتشكّل.
في غفلةٍ عن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه أبناء الإرث الاستعبادي، وتحت سطوة منطق موازين القوى القائم حاليًا، يفتقر هؤلاء إلى البصيرة والاستشراف. إنهم لا يدركون حجم الإحباط، ولا عمق الوعي المتنامي الذي بات يُغذي اليوم الحراك السياسي للحراطين ويدفعه بثبات نحو آفاق التغيير.
ومن ثم، فإن خطابهم ــ الذي يُفترض به أن يُعبّئ، ويُنظّم، ويُوعّي، ويُفكّك الأساطير، ويستشرف المستقبل ــ لا يمكن إلا أن يصطدم بالنبرة الصامتة التي يُراد فرضها على ماضٍ يُنظر إليه على أنه مُخزٍ، في حين أن آلياته لا تزال تتغلغل خفية في بنية الدولة الموريتانية المعاصرة.
إذا كان هؤلاء العرقيون، المتخفّون وراء رايات الناصرية والبعثية الحنينية، قد ظنّوا أن بإمكانهم من خلال هذه الندوة ــ التي اتّسمت بالاستفزاز والتعالي ــ ترهيب أو نزع الشرعية عن التعبير المشروع عن حالة السخط التي تعيشها ضحايا العبودية، ذلك التعبير الذي يعتبرونه جريمة في حق “الهيبة الوطنية”، فإنهم لم ينجحوا في شيء سوى في فضح أنفسهم وكشف نواياهم. لقد منحوا الحراطين — ذلك الاسم الذي يسعون جاهدين إلى جعله من المحظورات — فرصة لتذكيرهم بأن وهم ديمومة التقاليد المتوارثة للعبودية الجديدة قد ولى بلا رجعة، وأن الوقت قد حان للجميع كي يقطعوا مع النماذج المتقادمة لنظام جائر لم يعد له مكان في حاضرٍ يتطلع للعدالة والكرامة. فليعلموا إذًا أن لجوء ضحايا العبودية إلى التعريف بأنفسهم تحت اسم “الحراطين” في كل مناسبة ليس أمرًا اعتباطيًا. فهذا الاسم، الذي كان يُنظر إليه يومًا ما كوصمة، بات اليوم يعبّر عن هوية مُعتَمدة، ويجسّد رمزًا للوعي، ولليقظة، وللتحرر، وللأمل، ولمشروع نضالي يرمي إلى إعادة الاعتبار، يحمله مناضلو القضية الحراطينية بكل إيمان وعزيمة.
إنها صرختهم النابعة من أعماق المعاناة، وتعبيرٌ صادق عن آلام متجذّرة استُقبلت طويلًا كقدر محتوم؛ وهي أيضًا ذاكرة حيّة لحقبة عبودية دامت قرونًا، بقدر ما كانت بشعة، كانت ظالمة. ولذا، فإن “الحراطينية” لم تعد مجرد توصيف، بل تحوّلت إلى شعار نضالي تلقائي، ونداء تعبوي وُلد من الحاجة إلى الالتفاف حول مأساة تاريخية تخلّى عنها الدولة، وجرى تطبيعها داخل وعيٍ جمعي جامد، قللت من شأنها طبقة سياسية خاضعة لإملاءات للقوى المحافظة لنظام الاستعباد.
وبهذا، تصبح “الحراطينية” الركيزة والأساس والمعلم الرمزي لنهضة متجددة، تقودها إرادة صادقة لإعادة الاعتبار، وتجسّد مثلاً أعلى لمشروع مجتمعي ووطني يؤطر رؤيتهم، ويوجه طموحاتهم، ويصوغ تصورهم لمستقبل موريتانيا. كلا، فعندما يُعبّر ضحايا العبودية عن مطالبهم واحتجاجاتهم وتنديدهم تحت راية “حراطينيتهم”، فإن الأمر لا يمتّ إلى الشرائحية بصلة. بل هو نداءٌ مهيبٌ إلى ضمائر الوطنيين الصادقين وأهل النبل والعدل؛ وهو كذلك استغاثة تُسلّط الضوء على خصوصية معاناتهم، وصيحة ألم من أجل العدالة والإنصاف والتضامن. إنه احتجاج مشروع ضد معاملة تعسفية يتعرضون لها بشكل ممنهج، في ظل صمت متواطئ من بعض المتصدرين لمنابر “المواطنة” الزائفة والمواعظ الجوفاء.
ومن الجائر بل ومن المخجل أيضًا، أن يتم تحوير إدانة التهميش والإقصاء إلى هجوم على نظام المحاصص، في وقت يُتغاضى فيه عمداً عن أولئك الذين يحتكرون، في ظل واقع تمييزي، مفاصل السلطة وإدارة الشأن العام بشكل شبه كلي.
أما فيما تبقى، واليوم كما في المستقبل، فإن الحراطين لن يقبلوا مطلقًا بالخضوع لرؤية مغلوطة لموريتانيا تُكرّس العبودية الجديدة بشكل ممنهج، تمامًا كما أسهمت التأويلات المنحرفة للشريعة الإسلامية في إدامة ممارسات الرق. فـ”الحراطينية” أصبحت اليوم واقعًا سياسيًا قائمًا بذاته، تفرضه شرعية النضال وضرورات التقدم. ومن واجب الفاعلين في الساحة السياسية الوطنية أن يتحملوا هذه الحقيقة و يتعاملوا معها بكل واقعية و وضوح و مسؤولية وبُعد نظر.
24 أغسطس 2025
محمد داود إميجن
