تتناول دراسة «بذور الفكر الاستراتيجي وجذوره في الحضارة الصينية العتيقة» للدكتور محمد المختار الشنقيطي الجذور التاريخية للعقل الإستراتيجي الصيني من خلال نصّين كلاسيكيين شكّلا الأساس الذهني للممارسة العسكرية والسياسية في الصين القديمة: كتاب «فن الحرب» لصن تزو، ونص «الاستراتيجيات الست والثلاثين».
ولا تقف الدراسة عند حدود التحليل النصي، بل تربط بين هذه الحكمة القديمة وصعود الصين المعاصر في النظام الدولي.

أولاً: سياق الصين الحضاري وصعودها الحديث

يرى المؤلف أنّ الصين المعاصرة لا يمكن فهمها من دون فهم إرثها الاستراتيجي القديم.
فالصين خرجت مما يسمى “قرن المهانة” (1840–1949) بعد تعرضها للاحتلال والإذلال من قوى الغرب واليابان، ثم شرعت خلال العقود الأربعة الماضية في صعود “هادئ ومدروس”، مستلهمة من إرثها العسكري والسياسي وسائل المناورة والمرونة والصبر الإستراتيجي

وتشير الدراسة إلى أن هذا الصعود يترافق مع تمدد صيني صامت في الشرق الأوسط والخليج، عبر الاقتصاد والطاقة والتحالفات الإقليمية.

ثانيا: كتاب «فن الحرب»… مرجع العقل الصيني

يضع الشنقيطي كتاب صن تزو في قلب الدراسة، لأنه يمثل “اللبّ الفكري” للعسكرية الصينية.
ومن خلال تحليل نصوص الكتاب، يستخرج المؤلف ثماني مجموعات كبرى من الأفكار، يمكن تلخيصها وتفصيلها كما يلي:

1 التقييم الصافي: المعرفة قبل المواجهة

يعتبر صن تزو أن أول خطوة في أي حرب هي معرفة النفس والعدو والبيئة.
وهذا يتضمن:

• حساب مصادر القوة والضعف
• تقييم القدرات اللوجستية
• معرفة طبيعة الأرض والظروف
• دراسة العدو نفسياً وعسكرياً

الدراسة تشير إلى أن هذا المنهج يشبه ما يُستخدم اليوم في الاستراتيجية الحديثة تحت مصطلح Net Assessment

2 تحقيق النصر بأقل تكلفة ممكنة

يؤكد صن تزو أن إذلال العدو أو سحقه ليس هدفا، وأن أفضل حرب هي التي تربح من دون قتال.
فالهدف هو تحقيق المقاصد لا الانتقام، ولذلك يفضّل:

• المناورة
• الضغط الاقتصادي
• الحصار
• الحرب النفسية
• تفتيت إرادة الخصم

هذا المبدأ يُفسِّر جانباً كبيراً من الاستراتيجية الصينية الحديثة التي تميل إلى النفوذ الاقتصادي بدل القوة الخشنة

3 المرونة الاستراتيجية: حكمة الماء

من أكثر الأفكار عمقاً في الكتاب تشبيه صن تزو القائد الناجح بـ الماء:

• يتكيّف
• ينساب
• يتجمع
• يضرب في اللحظة المناسبة

وترى الدراسة أن هذه “الفلسفة المائية” تفسّر قدرة الصين على:

• التدرّج
• الصبر الطويل
• تجنب المواجهات المباشرة

4 التلاعب بيئة الصراع لا نتائج الصراع

يركز صن تزو على تغيير الظروف لا خوض المعارك.
وهذا يشمل:

• إرباك العدو
• جرّه إلى ساحات غير مناسبة له
• حرمانه من المعلومات
• التحكم بالزمن والمكان

الدراسة تظهر كيف أن الصين تطبق هذا المبدأ اليوم في:

• بحر الصين الجنوبي
• ملف تايوان
• الحروب التجارية مع الغرب

5 الخداع: الأصل في الحرب

صن تزو يعتبر أن كل حرب قائمة على الخداع.
وهذا الخداع ليس غدراً بل مناورة ذكية لتقليل الخسائر.
من أساليبه:

• التظاهر بالضعف
• إخفاء القوة
• تضليل الخصم
• خلق صورة ذهنية خاطئة لدى العدو

6 نقاط الضعف: اضرب ما لا يستطيع الخصم الدفاع عنه

من الأفكار المحورية:
لا تهاجم قوة العدو… بل هاجم نقاط رخاوته.
وتوضّح الدراسة أن هذه الفلسفة تفسر استراتيجيات الصين في استهداف:

• منافذ التجارة العالمية
• التكنولوجيا
• البنية التحتية الدولية
• الممرات البحرية
  بدلاً من سباق التسلح المباشر.

7 القائد الاستراتيجي: عقل مركّب ومتبصّر

ترسم الدراسة صورة القائد الناجح عند صن تزو:

• متواضع
• متخفٍ
• قليل الكلام
• واسع الحيلة
• قادر على إدارة الوقت
• يجيد اختيار أفضل توقيت للضربة

صورة تشبه كثيراً القيادة الصينية الحديثة القائمة على الغموض البنّاء.

8) خسائر محسوبة: التضحية التكتيكية لأجل النصر الاستراتيجي

يعترف صن تزو بأن الحروب لا تخلو من خسائر، لكن الخسارة الذكية جزء من المعادلة.

ثالثا: “الاستراتيجيات الست والثلاثين”… مدرسة الخداع والمرونة

النص الثاني في الدراسة هو “الاستراتيجيات الست والثلاثين”، وهي مجموعة من الحكم القصيرة التي تلخص خبرة الصينيين في الحيلة والمراوغة.
ومن أبرزها كما تذكر الدراسة:

• “اخفِ خنجرك خلف ابتسامتك”
• “اضرب العشب ليخرج الثعبان”
• “اصنع ضوضاء في الشرق واضرب في الغرب”
• “اقتُل بسيف مستعار”

هذه الاستراتيجيات، في تحليل الشنقيطي، ليست مجرد مكائد، بل قواعد لإدارة الصراع بذكاء في عالم غير متكافئ

رابعا: الدرس الصيني للعرب

تخلص الدراسة إلى أن العالم العربي بحاجة إلى:

• منهج عقلاني في اتخاذ قرار الحرب
• تقييم صافي بعيد عن العواطف
• معرفة دقيقة بالعدو
• فهم أعمق للعوامل النفسية
• إدراك أهمية الزمن في الصراع

وتشير إلى أن كثيراً من الهزائم العربية كانت بسبب ترجيح الأماني على الوقائع

خلاصة

تقدّم دراسة د. محمد المختار الشنقيطي قراءة غنية في العقل الاستراتيجي الصيني، وتظهر كيف يتجدد هذا العقل اليوم في سياسات الصين الدولية.
وبتتبّع مبادئ صن تزو والاستراتيجيات الست والثلاثين، توضح الدراسة أن قوة الصين الحقيقية ليست في سلاحها، بل في عقلها الطويل النفس، وحكمتها المتراكمة، وقدرتها على المناورة دون صدام.