في المشهد السياسي الموريتاني، كثيرًا ما تُستحضر الجغرافيا والجهويات بوصفها محددات أساسية في توزيع النفوذ داخل الدولة. ومن الأمثلة التي أُثيرت مؤخراً توصيف ولاية العصابة بأنها “الولاية المحظوظة”، في إشارة إلى اتساع حضور أبنائها في مؤسسات الدولة خلال حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني. ورغم وجاهة بعض الأرقام التي تُساق لدعم هذا الوصف، إلا أن القراءة المتأنية تكشف أن القضية أعقد من مجرد تعداد للوزراء أو السفراء أو رجال الأعمال.
النفوذ الفردي مقابل الامتياز الجماعي
الخلط الأكثر شيوعاً في مثل هذه الطروحات هو مساواة النفوذ الفردي أو النخبوي بالامتياز الجماعي للولاية. فالوزير أو السفير أو رجل الأعمال، مهما علا شأنه، لا يمثل بالضرورة سكان ولايته في وظائفه الرسمية، بل يُفترض أن يعمل وفق اعتبارات وطنية تتجاوز الانتماء الجهوي، وعليه، فإن القول بأن العصابة “محظوظة” لأن أبناءها يشغلون مناصب عليا، يغفل أن مكاسب هؤلاء تبقى في الغالب شخصية أو مرتبطة بمسارهم المهني، ولا تنعكس مباشرة على تحسين حياة المواطنين في كيفه أو باركيول أو كنكوصه.
مؤشرات التنمية: بين الواقع والتصور
إذا ما انتقلنا إلى أرض الواقع، فإن العصابة ما تزال تواجه تحديات بنيوية شبيهة بتلك التي تعانيها ولايات الداخل الأخرى:
بنية تحتية محدودة، حيث تبقى شبكة الطرق الداخلية في حاجة إلى توسعة وصيانة،
ضعف في تجهيز المستشفيات والمراكز الصحية،
هشاشة في المنظومة التعليمية،
محدودية في فرص العمل داخل الولاية، ما يدفع الشباب للهجرة إلى نواكشوط أو الخارج.
أما الحديث عن انخفاض معدل البطالة في العصابة مقارنة بالمعدل الوطني، فهو مؤشر يحتاج إلى قراءة دقيقة. فقد يكون ناتجًا عن اعتماد واسع على الزراعة الموسمية أو الاقتصاد غير الرسمي، أو عن الهجرة الداخلية والخارجية التي تقلل من حجم القوة العاملة المقيمة. وبذلك، لا يمكن اعتباره دليلاً قاطعاً على “حظوة” اقتصادية للولاية.
مقارنة تاريخية: نفوذ يتنقل بين الولايات
ليست العصابة أول ولاية يُقال إن أبناءها يحتلون مراكز القرار. ففي عهد الرئيس معاوية ولد الطايع، كان النفوذ الأبرز من نصيب الترارزة وآدرار، بينما عرف عهد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله حضوراً قوياً للبراكنة. وفي كل مرحلة، كان يتم تضخيم حضور النخب القادمة من ولاية الرئيس، حتى بدا الأمر وكأنه قانون غير مكتوب في السياسة الموريتانية.
لكن مع ذلك، لم تتحول أي من هذه الولايات إلى “محظوظة” بالمعنى التنموي. فالنفوذ السياسي للنخب لم يترجم يوماً إلى استثمارات ضخمة أو توزيع عادل للموارد داخل ولاياتهم.
إشكالية العدالة التوزيعية
النقاش الحقيقي الذي ينبغي أن يُطرح ليس: أي الولايات أكثر تمثيلاً في الحكومة أو الدبلوماسية؟ بل: إلى أي حد يترجم هذا التمثيل إلى عدالة توزيعية في التنمية؟
فالدولة الموريتانية بطبيعتها مركزية، والموارد تُدار من العاصمة وتُوجَّه غالباً إلى المشاريع الوطنية الكبرى أو إلى المناطق الأكثر استراتيجية. وفي هذا السياق، تظل جميع ولايات الداخل، بما في ذلك العصابة، تعاني نقصاً في البنية التحتية والخدمات الأساسية، بغض النظر عن عدد أبنائها في الحكومة.
خطورة الخطاب الجهوي
التركيز على العصابة بوصفها “الولاية المحظوظة” يُغفل هذا السياق ويُخاطر بتغذية الخطاب الجهوي الذي قد يزرع حساسيات بين أبناء الوطن الواحد. فمن شأن هذا الطرح أن يُنظر إلى المسؤولين من زاوية انتمائهم المناطقي لا من زاوية كفاءتهم أو أدائهم الوطني. وهو مسار خطير في بلد متعدد المكونات يسعى لتعزيز وحدته الوطنية.
بين الصورة والواقع
إن ما يُقدَّم على أنه “حظوة” قد لا يكون سوى صورة مضخمة لحضور بعض النخب في لحظة سياسية معينة. أما واقع العصابة كولاية فهو واقع يختزل التحديات الوطنية الكبرى: ضعف التنمية، الهجرة الداخلية، الحاجة إلى العدالة التوزيعية، وتطلعات السكان إلى نصيب أكبر من المشاريع والخدمات.
خاتمة
ولاية العصابة ليست “محظوظة” كما يُصوَّر أحياناً، بل هي ولاية موريتانية تتقاسم مع غيرها من ولايات الداخل هموم التنمية وتحديات الحاضر والمستقبل. أما حضور أبنائها في مراكز القرار، فهو جزء من دينامية سياسية وطنية تتنقل فيها الأدوار بين مختلف الولايات.
ومن ثمّ، فإن النقاش الأكثر فائدة لا يكمن في حساب نسب الوزراء والسفراء، وإنما في البحث عن سبل بناء دولة عادلة توزع مواردها وخدماتها بشكل متوازن بين جميع الموريتانيين، بصرف النظر عن مواقعهم الجغرافية أو خلفياتهم الجهوية.
الخبير القضائي: ازيدبيه ولد احديد
