زاوية الرأي

من يُكره البيظان يكرههم..

أحمد سلمان شحرور يكتب

لا شكّ أن هذه البلاد لم تقم كخيارٍ شعبي، اصطفّ له الشعب الموريتاني كلّه بوعيٍ، وقناعة، وفي تعدديةٍ وتنوع.. وإنما كانت خيار ممثلينَ في أحسن الأحوال، وفي أسوئها توكيلُ مستعمرٍ مجبر على التخلّي بفعل النضال السياسي حسب قوم، أو بفعل المواجهة العسكرية حسب آخرين، أو نتيجةَ التحولات التي شهدتها السياسة الدولية في عالم كولنياليّ منهك.. كما يقولون ويحللون..

على كل الأحوال فإنّ الدولة ككيان جديد، يسع الناس بظلال المواطنة، وقيم العدل، والمشاركة السياسية الشفافة التي تتنحى فيها قيم القبائلية، والمناطقية، والأعراق، والكيانات الضيقة، لصالح بنيةٍ اجتماعية وسياسية جامعة، تسع كل هذه الفواصل الضيقة، والمتباينة، في إطار الحضور الوطني، والتعايش، من أجل البناء المثمر والفعال؛ هذا الكيانُ بتحدياته هذه جديدٌ على هذه الأرض، ونشاز في سياقه، ورغم أن جهودا بُذلت في هذا السبيل، فإن عوائق من قبيل انفصام الشعب عن الدولة (الحكومة)، وشيوع العبودية، وانتشارها على نطاق واسع (مما تكبيلِ جزء مهم من المواطنين وأسس لتحديات جوهرية لاحقة)، وقيام العسكرتاريا وتحكمها بديلا عن النظام المدني؛ كل هذه العوائق جعلت من قيام الدولة بألف ولام العهد، بُغيةً، وحلما بعيد المنال..

ثم توالت الأيام في هذا الفضاء وفي سياق تتناهبه العساكر، يتقلب بين ألم الفساد، والتجهيل، والتسويق الشائه لديمقراطية الغزاة، إلى التجذير الفاضح لعقليات البذخ السياسي، واستمالة القبائل، وتمكينها، والتغاضي عن العلل الجوهرية التي تعمق جراح الموريتانيين مع الوقت..

الحكام العسكريون يرون في تخليق الفوضى حماية لعروشهم، والنخب استطال بها الزمن في ظل هذا التسيب، فألفت الانتكاسة القيمية، وربحت الوقت بالتطبيل، والتشبيك مع الفساد، والقبلية، والإقصاء، وتوالدت في ذلك، وتناسلت، وطبعت القلوب والأفئدة على أن موريتانيا هي هذا الكيانُ الحاكم بألوانه الفاتحة، وبثقافته الأحادية، وبجيشه، وزبانيته، ونخبه، وفنانيه، وليس بالإمكان أحسن مما كان..

ربما لم يَسْعَ البيظان كشعبٍ إلى أن تكون الدولة دولتهم وحدهم، ولم يفكروا بذلك، لكنهم بواقع الحال وجدوها كذلك، بفعلِ تهيُّئهم كقبائل موجودة إبان تشكل الدولة، وكنخبٍ، ومثقفين وساسة، ولاحقا كجنود وأصحاب رُتبٍ عالية في الجيش، ثم جاء المد القومي، وعمق الشرخ بخطاب يتناغم مع التأزيم، وتخليق الأنساق الشيطانية من خلال التعريب المُمِيت، المدمّر، ولم يطل صِدامُ القوميين مع العسكر حتى دخلوا في دمهم ولحمهم، وتمخض هذا التمازج داخل الجسم الغريب عن الأحداث الأليمة التي مارسها النظام يومئذ ضد إخوتنا الزنوج، والتي جاءت في ظرف زمني حساس( الاستقلال)، كنوع من ترسيخ التأزيم، وتطويل أمده، وربطه بذاكرة الشعوب حتى يصعب نسيانه، أو تناسيه.

أجبر البيظان بفعل نخبهم، وبفعل الزبونية التي تذهب لصالحهم، والفساد الذي خلق منهم رجال أعمال، والحظوة التي أعطتهم الأولوية في الوظائف، والتعيينات؛ أجبروا على أن تكون الدولة دولتهم، إن لم يكن بفعل التغلّب، فبدافع المصالح التي قد تتقزم، لو قدر الله أن تتحول المراطلة إلى مواطنة، والأتباع إلى إخوة في إطار الندية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.

أجبروا في الإذاعة والتلفزة، والجيش، والرئاسة، والاقتصاد، والسياسة، وفي كل شيء على كيانٍ صنعته العسكرتاريا ليُبقى أثرا في نفوسهم، وفي عقلهم الباطن أن التشارك فيه استيلاء، والمطالبة بذلك عنصرية، والحديث عنه من قبيل المحاذير التي تُهدد الأمن العام، وتعصف بالسكينة..

ظلت خطابات الأنظمة تحفل بالتعمية، والتطريب، والإنكار، والاعتراف الخجول، وتسويق الاعتراف الصريح الذي يبيع الوهم، ولا يقارب الواقع بمشاريع جادة، التبس على الناسِ مفهوم المواطنة، وتعارضت قيمها في النفوس، وازدحمت المصالح العامة بمذاهب العامة، والدهماء..

هذا الواقع يهدده أن موريتانيا جزء من عالم فسيح، يتقارب، ويتلاقى، ويتزايد فيه الوعي، ويتسابق، ومن ثم تتعمق المطالب، ويرتفع الصوت الغريب، الذي كان محبوسا، ويرفض الناس ما كان مقبولا مستساغا، وتتداعى الأعذار، والبهتان القديم يسقط، أو يتشوه، ويكفر به الناس، وكلما ترسخ صنم، جاءته الريح العاصف فانهد أو انكسر أو أزيل من أصوله وتبخر..

لا يجدي إكراه البيظان على مواجهة مطالب العدالة، ولا يجدي جعلهم يتبنون الدولة والمواطنة، ولا يجدي بناء هوية وطنية مهزوزة، شائهة، منعزلة عن سياق التعددية، ولا تجدي استمالة المناضلين عن الحرية، والمنافحين من أجل الوجود، ولن تنفع المشاريع المستهلكة التي تمدها يد السادة للعبيد السابقين للإبقاء على قداسة التبعية.

ولا اختيار بقع السواد في البياض الكثيف، هذا المشروع حتمي من أجل سلام موريتانيا، وصلاحها، وفلاحها، ما عادت تنفع فيه الخطابات المبتورة عن الواقع، المفصولة عن الحقائق الماثلة، ولا الاعترافات التخديرية، الخجولة، التي تسبقها الممارسات الناقضة لها القاضية عليها..

إن البيظان هم ملح هذه الأرض، وينبوعها، واعلامها، وعلماؤها، وساستها، ودعاتها، ومحاظرها، لكنهم موريتانيون ضمن موريتانيين آخرين، يفرض عليهم الواقع أن يكونوا جزء من كل لا كلا له جزء تابع، وأن تكون لهم الحظوة مع غيرهم لا عليهم…

إن التبييض لا يقل خطورة عن التسويد، والحل في حياة يحكمها الأكفاء، من كل الأجناس والأطياف، والأعراق، والسحنات..

الدولة لا تعني البيظان، والوطن يشمل الجميع، ولكل الحق في التعبير عن امتعاضه، وعن “زمگته”، وهذا لا يهدد الآخرين، ومن ظن ذلك فهو مُكرهٌ على تمثل الأدوار السالبة، ولعبها خطأ، وسوء تقدير.

لابد من إعادة بناء العقليات، وترسيخ المواطنة العملية، لدى الإنسان الموريتاني… والتصالح مع الخطاب الحقوقي، تصالحا ناجعا، ينعكس إيجابا على واقع الإنسان والوطن، فالقضية أكبر من مسعود ولد بلخير، ومن بيرام، وغيره، القضية قضية وطن ينبغي أن يكون وطنا، جامعا مانعا، قارا على العدالة، لا غير .

فلا تكرهوا إخونكم، ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، ذلك خير لكم وأنفع.

اظهر المزيد

باركيول نت

منصة إعلامية تعنى بالشأن الثقافي والتراثي، وتواكب الأحداث السياسية والاجتماعية الوطنية بمهنية واهتمام. هدفها الأسمى هو إنارة الرأي العام الوطني، من خلال تقديم محتوى رصين، جديد ومفيد، يواكب تطلعات المتابعين ويعكس نبض المجتمع وقيمه الأصيلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى